تابــــــــــــــــــــــــع الوعد القرآني في سورة الأنبياء
السنة الربانية في الصراع بين الحق والباطل:
ثانياً: قوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18].
تقرر هذه الآية حقيقة قاطعة، تحدد نهاية الصراع بين الحق والباطل، تلك النهاية التي يحددها الله بحكمته، في الزمان والمكان والأسلوب المناسب، والتي يُزهَق فيها الباطل ويُنْصر الحق.
وسبق هذه الآية آيتان تتحدثان عن (الجدية) في أفعال الله، وتنفي عنها اللعب والعبث. قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 16-17].
خلق الله السماوات والأرض لحكمة، ولم يكن لاعباً في خلقه لهما سبحانه، وأفعاله منزهة عن اللهو والعبث! ولو أراد أن يتخذ لهواً لاتخذه من عنده، وما كان ليفعل ذلك.
و(إِن) في قوله: (إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) حرفُ نفي بمعنى (ما): أي: ما كنا فاعلين ذلك اللهو.
ونفي اللعب واللهو عن أفعال الله، في سياق الحديث عن المواجهة بين الحق والباطل، مقصود، ليبين أن الله حكيم في توجيه هذه المواجهة، ورسم خطواتها ومراحلها وأحداثها.
إن الصراع بين الحق والباطل سنة ربانية، وإن إزهاق الباطل سنة ربانية، وإن انتصار الحق على الباطل سنة ربانية. وقد وعد الله المؤمنين بإنفاذ هذه السنة، لأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل، ووعد الله لا يُخلف أو ينقض.
وكل قصص القرآن معرض عملي لإنجاز هذا الوعد، وتحقيق هذه السنة، وكل حركة للمسلمين الصادقين المجاهدين، على مدار التاريخ الإسلامي، معرض عملي إسلامي لهذه السنة، وتفسير إسلامي للوعد الجازم في هذه الآية: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ).
الحق يدمغ الباطل:
ولنستمع بالصورة الفنية العجيبة الحية، التي تعرضها الآية، للصراع بين الحق والباطل.
إنها صورة عسكرية صاروخية متحركة، نتخيلها في خيالنا الفاعل، ونحن نقرأ الآية، وكأننا أمام (فيلم تلفزيوني مصوّر) لمراسل عسكري، يبثه بثاً حياً على القناة الفضائية: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)!.
لننظر في (الفيلم) الذي تعرضه علينا الآية: إننا نرى على الشاشة (الباطل) في صورة جسم عسكري مجسّم، كأن يكن دبابة، أو حاملة طائرات، أو منصّة لإطلاق الصواريخ! ونلتفت إلى الجانب الآخر، معسكر الحق، فنرى قاعدة مادية مجسمة لهذا المعسكر، ونرى مجموعة من (الصواريخ) جاهزة للانطلاق لتدمير الباطل.. وما هي إلا لحظة قصيرة، حتى يُصدر الآمر أمره بإطلاق (صاروخ الحق) فينطلق الصاروخ نحو هدفه، ونراه في هذا الفيلم المصور متوجهاً نحو معسكر الباطل.. ونراه وهو يصيبه إصابة مباشرة، ونراه وهو يدمغه ويدمره ويفجره.. ونرى الباطل زاهقاً مدمراً هالكاً، زال عنه انتفاشه وادعاؤه!!.
لقد عرضت الآية المعجزة انتصار الحق على الباطل، في صورة معبرة مؤثرة، على أساس القاعدة الجمالية القرآنية: (التصوير الفني في القرآن)، التي عرض بها القرآن مختلف موضوعاته!.
الكفار نشيطون في نشر باطلهم والتمكين له، وينجحون في ذلك إلى حد ما، حيث يقيمون لباطلهم وجوداً كبيراً، متمثلاً في أنظمة وأجهزة، وكيانات ومؤسسات، ويمدونها بكل وسائل القوة، لتستمر وتبقى.. وهم أيضاً جادون في محاربة الحق وأهله، ويستخدمون في ذلك مختلف الوسائل والأساليب، ويحققون بعض النجاح.
ويعجَب الكفار بجهودهم في التمكين لباطلهم، وفي حرب الحق وأهله، ويظنون أنهم نجحوا في مرادهم، وحققوا أهدافهم، فيفرحون ويرتاحون..
وفجأة يأتيهم أمر الله، من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون، فيقوي سبحانه جند الحق، وينصرهم على جند الباطل، ويقذف بقذائف وصواريخ الحق على مؤسسات الباطل، فيدمغها ويدمرها ويهلكها.
تحقق هذا في إهلاك وتدمير قوى الباطل قبل الإسلام، على يد الرسل وأتباعهم، وأنفذ الله فيها قدره وإرادته سبحانه.. وتحقق في إهلاك وتدمير قوى الباطل بعد الإسلام، وأنفذ الله فيها قدره وإرادته، وقذف سبحانه قذائف الحق على الفرس والروم وأهلكهم، وقذفها على الصليبيين والتتار وأهلكهم..
وها هي قوى الباطل في زماننا منتفشة طاغية باغية، تتمثل في العالم الغربي الصليبي، الذي تقوده أمريكة، وتتمثل في اليهود المفسدين. وإننا على يقين من أن الله سيقذف قذائف الحق الإسلامية على هذه القوى الكافرة، فيدمغها ويزهقها ويدمرها. ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريباً!.
معنى إنقاص الأرض من أطرافها:
ثالثاً: قوله تعالى: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ، قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ) [الأنبياء: 44-45].
الكلام عن كفار قريش، وفيه إنذار لهم، وتهديهم بالعقاب، إن لم يتخلوا عن الكفار والتكذيب، ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يخبر الله أنه أنعم على كفار قريش، ومتعهم بمختلف أنواع المتع، كما أنعم على آبائهم ومتّعهم، ولكنهم قابلوا هذا الإنعام والإمتاع بالجحود والكفران والعصيان، واستوجبوا بذلك العقاب.
وسيكون العقاب بإضعافهم، وإزالة سلطانهم، حيث سينقص الله عليهم الأرض من أطرافها، وسيقلص نفوذهم، وسيضعف تأثيرهم.. وهم ضعفاء أمام قوة الله، مغلوبون أمام أمره، ولن تستطيع أية قوة مخلوقة مهما عظمت أن تقف أمام قوة الواحد القهار.
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الكفار العذاب، لعلم يتراجعون عن ما هم فيه، فإذا فتحوا قلوبهم وحواسّهم للإنذار استفادوا ونجوا، وإن أغلفوا قلوبهم وحواسّهم خسروا وهلكوا.
والشاهد في الآية قوله: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ).
ويخطئ بعض الباحثين من المسلمين في فهم المقصودين من إنقاص الأرض من أطرافها، المذكور في هذه الآية، وفي الآية الأخرى: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41]. فيعتبرون حديث الآيتين عن (شكل) الأرض البيضاوي، فالله أنقص الأرض من أطرافها، بأن صغّر حجمها عن القطبين الشمالي والجنوبي، والله مد الأرض وكبّرها عند خط الاستواء!.
ونرى أن هذا فهم مرجوح للآيتين، و(شكل) الأرض قد يكون هكذا، مضغوطاً عند القطبين، و(منبعجاً) عند خط الاستواء، لكن إنقاص أطراف الأرض الذي تحدثت عنه الآيتان إنقاص معنوي، وليس مادياً، وهو يتمثل في إضعاف قوى دول وإمبراطوريات، وتقلص سلطانها، وخروج بعض البقاع في أطرافها عن سيادتها، وانكماش رقعتها الجغرافية.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
المفضلات